الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الحمد للّه نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم. أما بعد: فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [المقامات والأحوال]ـ وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل / محبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك. اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان. فأقول: هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الأصل ـ باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. فالظالم لنفسه: العاصي بترك مأمور أو فعل محظور. والمقتصد: المؤدي الواجبات والتارك المحــرمات. والسابق بالخيرات: المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه. وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه: إما بتوبة ـ واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك. وكل من الصنفين: المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله: وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخـاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: (يقول اللّه: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه). وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية اللّه بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. / وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به مرة فقال رجل: لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله). فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال: (يحقر / أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق). ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها. ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل / البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى: وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى: وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّابًا)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور. وقد قال تعالى: والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن / المظهرين للإسلام ينقسمون إلى: مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى: فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى: وقال تعالى: وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى: ومما ينبغي أن يعرف: أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي / الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحـديث الصحـيح: (كتب على ابـن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). ويقال: حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك. ولهذا يريدون بالصادق: الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله. قال اللّه تعالى: وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو: الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى: /ولهذا كان رأس الإسلام [شهادة أن لا إله إلا اللّه]، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى: وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة: هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: (الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب)؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، وعن أبي هريرة قال: القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
|